فصل: تفسير الآية رقم (53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (52):

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)}
وسبحانه وتعالى بهذه الآية إنما يرد على من يحزن إن أصابت الحسنة المؤمنين، ويفرح إن أصابتهم مصيبة، فيأتي قول الحق سبحانه ليوضح: إن كل ما يصيب المؤمنين هو لصالحهم. ولذلك قال: {لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} فلم يكتب سبحانه الأمور علينا، بل لنا، و(لنا) تفيد الملكية؛ إما: تأديباً وإما تكفيراً عن ذنوب، وإما اتجاهاً إلى الحق بعد زيغ الباطل، وكل ذلك لصالحنا.
وجاء سبحانه بعد ذلك بالقول {فتربصوا} أي: تمهلوا وانتظروا وترقبوا نهايتنا ونهايتكم. أما نهايتكم فاستدامة عذاب في الدنيا وفي الآخرة. وأسباب العذاب مجتمعة لكم في الدنيا، وأسباب الخير ممتنعة عنكم في الآخرة، ونتيجة تربصنا لكم أن نرى السوء يصيبكم، وتربصكم لنا يجعلكم ترون الخير وهو يسعى إلينا، إذن فنتيجة المقارنة ستكون في صالحنا نحن.
وبعد أن بيَّن الله ذلك يطرأ على خاطر المؤمن سؤال: ألا يصدر من هؤلاء الأقوام فعل خير؟ وألا يأتي إليهم أدنى خير؟ ونحن نعلم أن الحق سبحانه يجزي دائماً على أدنى خير.
ونقول: إن الحق شاء أن يبين لنا بجسم مسألة الخيانة العظمى وهي الكفر والعياذ بالله، وبيَّن أن كل كافر بالله لا يُقبل منه أي عمل طيب؛ لأن الكفر يُحبطُ أيَّ عمل، وإن كان لعملهم خير يفيد الناس، فالحق يجازيهم مادياً في الدنيا، ولكن ليس لهم في الآخرة إلا النار، ويقول: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً..}.

.تفسير الآية رقم (53):

{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)}
إذن: فشرط تقبُّل الله لأي عمل إنما يأتي بعد الإيمان بالله، أما أن تعمل وليس في بالك الله، فخذ أجرك ممن كان في بالك وأنت تعمل.
لذلك ضرب الله مثلاً بأعمال الذين كفروا في قوله تعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39].
ويعطينا الله سبحانه مثلاً آخر في قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18].
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].
وهذا ما يشرح لنا ما استغلق على بعض العلماء فهمه في قول الحق: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].
فقد تساءل بعض من العلماء: أيجزي الحق سبحانه هؤلاء الكفار في الآخرة أم في الدنيا؟ وقد استغلق عليهم الأمر لأن الآية عامة. ونقول: إن الحق يعطي في الدنيا الجزاء لمن عمل للدنيا، ويعطي في الآخرة لمن عمل للدنيا والآخرة وفي قلبه الله. ولذلك فالذين يحسنون اتخاذ الأسباب المخلوقة لله بمنح الربوبية ينجحون في حياتهم. والذين يتقدمون دنيوياً في زراعة الأرض وانتقاء البذور والعناية بما يعطيهم الله جزاء عملهم في الدنيا، ولا يبخس منه شيئاً؛ ولكن الحق سبحانه يقول أيضاً: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23].
هذا القول يوضح عطاء الآخرة، ولذلك فالخير الذي يعمله غير المؤمن لا يُجزى عليه في الآخرة؛ لأنه عَمِلَ وليس في باله الله، فكيف ينتظر جزاءه ممن لم يؤمن به؟
إن الله سبحانه يجزي مَنْ آمن به وعمل من أجله. ولكن من كفر بالله حبط كل عمله. وهذا أمر طبيعي؛ لأنك ما دُمْتَ قد عملت الخير وليس في بالك الله، فلا تنتظر جزاءً منه. إن عملتَ للإنسانية أعطتْك الإنسانية، وإن عملتَ للمجتمع أعطاك المجتمع وصنعوا لك التماثيل وأطلقوا اسمك على الميادين والشوارع، وأقيمت باسمك المؤسسات، وتحقق لك الخلود في الدنيا، وهذا هو جزاؤك. ولكن إن كنت مؤمناً بالله، راجياً ثوابه تجيء يوم القيامة لتجد يد الله ممدودة لك بالخير الذي قدمته.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} والطَّوْع: هو الفعل الذي تُقبل عليه بإرادتك دون أن تكون مكرهاً، فكيف لا تجازى على خير فعلته بإرادتك؟
ولا بد لنا أن نفرق بين (طوع) و(طائع)، وكذلك نفرق بين هذا وبين الفعل الذي تقوم به حين يحملك غيرك ويُكرهك أن تفعله.
والأفعال كلها إما أن تكون بالطواعية وبالإرادة، وإما أن تكون بالإكراه. ولو كان الحق قد قال: أنفقوا، طاعة لما قال: {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ}؛ لأن الطاعة معناها انصياع عابد لإرادة معبود، ولكن قوله هنا: {طَوْعاً} يكشف أن ما ينفقونه هو أمر اختياري من عندهم. وكانت أحوال المنافقين كذلك، فمنهم من قدم أولاده للجهاد، ومنهم من قدم بعضاً من ماله، وكانوا يفعلون ذلك طائعين لأنفسهم ويستترون بمثل هذه الأفعال حتى لا يفتضح نفاقهم، وكان الواحد يتقدم إلى الصف الأول من صفوف الصلاة في المسجد، ويفعل ذلك طوْعَ إرادته، خوفاً من افتضاح نفاقه لا طاعة لله، فطاعة الله هي طاعة عابد لمعبود، أما مثل تلك الأفعال حين تنبع من طوع النفس فهي للمظهر وليست للعبادة.
{قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} هل هذا أمر بالإنفاق؟ أو هل يريد منهم أن ينفقوا فعلاً، خاصة أنه سبحانه لن يتقبل منهم؟ لا ليس هذا أمراً بالإنفاق بل هو تهديد ووعيد. مثلما تقول لإنسان: اصبر، فذلك ليس أمراً بالصبر ولكن تهديد بمعنى: اصبر فَستَرى مني هولاً كثيراً. وهذا مثل قوله تعالى: {فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ..} [الطور: 16].
وقوله تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ..} [فصلت: 40].
أي: أنكم إن صبرتم أو لم تصبروا فإن ذلك لن يغير شيئاً من الجزاء الذي سوف تلاقونه، فالأمر سواء. ولو كان قوله تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} أمراً؛ لكان كل من عمل معصية داخلاً في الطاعة؛ لأن الله أمره أن يفعل ما يشاء. ولكن هذا أمر تمهيدي، أي: افعلوا ما شئتم فأنتم عائدون إلى الله وسيحاسبكم على ما عملتموه. ولن تستطيعوا الفرار من الله سبحانه.
وقوله تعالى: {أَنفِقُواْ} هو- إذن- أمر تمهيدي؛ لأنه لن يجديكم أن تنفقوا طوعاً أو كرهاً.
وكلمة {كَرْهاً} وردت في القرآن الكريم في أكثر من سورة، فهي في سورة آل عمران، وفي سورة النساء، وفي سورة التوبة، وفي سورة الأحقاف، وفي سورة الرعد، وفي سورة فصلت، قد ذكرت {كَرْهاً} بفتح الكاف وقرأها بعضهم بضم الكاف. وقال البعض: إن (كَرْهاً) بفتح الكاف و(كُرْهاً) بضم الكاف بمعنى واحد. نقول لهم: لا، إن المعنى ليس واحداً، فمثلاً قول الحق سبحانه وتعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً...} [الأحقاف: 15].
فالكُره هنا ليس للحمل ولا للوضع، ولكن للمشقة التي تعانيها الحامل أثناء حملها وعند الولادة. فلم يكرهها أحد على هذا الحمل. ولكن البعض يقول: إن الحمل يحدث وليس للمرأة علاج في أن تحمل ولا أن تضع، فلا توجد امرأة تقول لنفسها: (سوف أحمل الليلة)؛ لأن الحمل يحدث دون أن تَعيَ هي حدوثه، فالحمل يحدث باللقاء بين الرجل والمرأة. والمرأة لا تستطيع أن تختار ساعة الحمل ولا أن تختار ساعة الولادة، ولا تستطيع أن تقول: سألد اليوم أو لن ألد اليوم.
فكل هذا يحدث إكراهاً بغير اختيار منها. ولذلك نقول لمن يقولون أن (كَرْهاً) بفتح الكاف و(كَرْهاً) بضم الكاف بمعنى واحد: لا؛ لأن (الكُرْه) بضم الكاف هو ما لا يريده الإنسان لأن فيه مشقة، و(الكَره) بفتح الكاف هو ما فيه إكراه من الغير. إذن ف (كَرْهاً) بفتح الكاف تختلف في معناها عن (كُرْهًا) بضم الكاف.
الحق سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} أي: لن يقبل الله منكم ما تنفقونه. ولكن ما الفرق؟ لقد كان المنافقون يدفعون الزكاة ويقبلها الرسول منه ولم يرفضها أدباً منه صلى الله عليه وسلم، فكل عمل يؤدى ثم يذهب إلى الرقيب الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى. ولكن حدث أن واحداً من هؤلاء هو ثعبلة طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بالغنى، فلما دعا له ورزقه الله الرزق الوفير بَخِل عن الزكاة، وحاول أن يتهرب من دفعها؛ فنزل القول الكريم: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75-77].
وعندما نزلت هذه الآيات جاء ثعلبة ليدفع الزكاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها منه. وعندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ثعلبة إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبل منه الزكاة. وبعد أبي جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يقبلها منه. ومات ثعبلة في عهد عثمان. هذا هو عدم القبول.
ولكن هناك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من دفع الزكاة من المنافقين وقُبلَتْ منه، ولكن الله لم يتقبلها منه. إذن: فكل عمل قد يُقبل من فاعله، ولكن الله سبحانه وتعالى قد يتقبله أو قد لا يتقبله. إذن فالآية معناها: أنه الله لن يتقبل من هؤلاء المنافقين إنفاقهم في الخير ولو تقبله البشر.
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى السبب في ذلك فيقول: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} وكما قلنا: إن كلمة الفاسق مأخوذة من (فسقت الرُّطَبَة) أي انفصلت القشرة عن الثمرة. وقشرة البلح مخلوقة لتحفظ الثمر. وعلمنا أن المعاني في التكليف الشرعي قد أُخذت من الأمور الحسّية؛ ولهذا تجد أن الدين سياج يمنع الإنسان من أن يخرج على حدود الله ويحفظه من المعصية، والإنسان حين ينفصل عن الدين إنما يصبح كالثمرة التي انفصلت عن سياجها.
فالذي يشرب الخمر أو يرتكب الجرائم أو الزنا يُعاقب على معصيته، أما إن كان الإنسان منافقاً بعيداً عن الإيمان بالله فطاعته لا تقبل. وهَبْ أن الإنسان مؤمن بالله ولكنه ضعيف أمام معصية ما، هنا نقول: لا شيء يجور على شيء، إن له ثوابَ إيمانه وعليه عقاب معصيته.
إذن: فالفسق في هذه الآية الكريمة ليس هو الخروج عن مطلق الطاعة. ولكنه فسق من نوع خاص؛ لأن هناك فسقاً محدوداً وهو أن يخرج الإنسان عن مجرد تكليف. ولكن الفسق الكبير هو أن يكفر الإنسان بالله. ولذلك جاءت الآية الكريمة التالية {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ..}.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)}
إذن: فالفسق نوعان: فسق خاص. وقد يقول البعض: إنك إن ارتكبت معصية فصلاتك وزكاتك وكل عباداتك لا تنفعك.
ونقول: لا فما دامت القمة سليمة؛ إيماناً بالله وإيماناً بالرسول عليه الصلاة والسلام وتصديقاً بالمنهج، فلكل عمل عبادي ثوابه، ولكل ذنب عقابه؛ لأن الحق سبحانه مطلق العدالة والرحمة، ولا يمكن أن يضع كل الشرور في ميزان الإنسان. فمن كان عنده خصلة من خير فسوف يأخذ جائزتها وثوابها، ومن كان عنده خصلة من شر فسوف ينال عقابها.
وقوله الحق هنا {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ}، هذا القول الكريم هو حيثية للحكم بعدم قبول نفقاتهم، وفي هذا تحديد لعموم الفسق وهو الكفر، لا في خصوص الفسق، وحدد الحق ثلاث أشياء منعت التقبل منهم: الكفر بالله ورسوله وهو كفر القمة، ثم قيامهم إلى الصلاة وهم كسالى، ثم الإنفاق بكراهية.
ونفعهم المنع على أنه رَدُّ الفعل إلى ما ينقض العمل أو ينافيه؛ كأن يريد إنسان القيام فتُعده، أي أنك رددت إرادة القيام إلى القعود، وهو ما ينافيه، أو أن يحاول إنسان ضرب آخر فتمنع يده، فتكون بذلك قد منعت غيره من أن يعتدى عليه. إذن فالمنع مرة يأتي للفاعل ومرة للمفعول. فأنت حين تمنع زيداً من الضرب تكون قد منعت الفاعل، وحين تمنع عنه الضرب تكون قد منعت المفعول، وكل فلسفة الحياة قائمة على المنع، الذي يوجزه الفعل ورد الفعل، تجد ذلك في الإنسان وفي الزمان وفي المكان.
وإذا بحثت هذه المسألة في الإنسان تجد أن حياته تقوم على التنفس والطعام والشراب، والتنفس هو الأمر الذي لا يصبر الإنسان على التوقف عنه، فإن لم تأخذ الشهيق انتهت حياتك، وإن كتمت الزفير انتهت حياتك. وإذا منعت الهواء من الدخول إلى الرئتين يموت الإنسان، وإذا منعت خروج الهواء من الرئتين يموت الإنسان أيضاً.
وحركة العالم كله مبنية على الفعل وما يناقضه. فإذا حاول إنسان أن يضرب شخصاً آخر وأمسكتَ يده، وقلت له: سيأتي أبناؤه أو إخوته أو عائلته ويضربونك، حينئذ يمتنع عن الفعل خوفاً من رد الفعل. والعالم كله لا يمكن أن يعيش في سلام إلا إذا كان هناك خوف من رد الفعل؛ القوى يواجه قوياً، والكل خائف من رَدِّ فعل اعتدائه على الآخر. ولكن إذا واجه قوى ضعيفاً، تجد القوى يفتك بالضعيف.
وهكذا العالم كله، فالكون إما ساكن وإما متحرك. وتجد الكون المتحرك فيه قوى متوازية تعيش في سلام خوفاً من رد الفعل. وكذلك تجد العالم الساكن؛ فالعمارة الشاهقة تستمد ثباتها وسكونها من أن الهواء لا يأتي من جهة واحدة، ولكن من جهات متعددة تجعل الضغط متوازناً على كل أجناب العمارة، ولكن لو فرَّغْتَ الهواء من ناحية وجعلته يهب من ناحية أخرى لتحطمت العمارة، تماماً كما تُفزِّغُ الهواء من إناء مغلق فيتحطم.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ} لا يعني أن ألسنتهم لم تنطق بالشهادة، لا، فقد شهد المنافقون قولاً، ولكن هناك فرق بين قولة اللسان وتصديق الجنان؛ فالإيمان محله القلب، والمنافقون جمعوا بين لسان يشهد وقلب ينكر، فأعطاهم الرسول حق شهادة اللسان، فلم يتعرض لهم ولم يأسرهم ولم يقتلهم، وأعطاهم نفس الحقوق المادية المساوية لحقوق المؤمنين، وكل ذلك احتراماً لكلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) التي نطقوا بها؛ ولأن باطنهم قبيح، فالحق سبحانه يجازيهم بمثل ما في باطنهم، ويعاقبهم، فلا يأخذون ثواباً على ما يفعلونه ظاهراً وينكرونه باطناً. وهكذا كان التعامل معهم منطقياً ومناسباً. فما داموا قد أعطوا ظاهراً، فقد أعطاهم الله حقوقاً ظاهرة؛ ولأنهم لم يعطوا باطناً طيباً، فلم يُعْطِهم الله غيباً من ثوابه وغيباً من جنته وعاقبهم بناره.
ونأتي إلى السبب الثاني في قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصلاوة إِلاَّ وَهُمْ كسالى} والكسل: هو التراخي في أداء المهمة. إذن فهم يصلون رياءً، فإن كانوا مع المؤمنين ونُودي للصلاة قاموا متثاقلين. وإن كانوا حيث لا يراهم المؤمنون فهم لا يؤدون الصلاة. إذن فسلكوهم مليء بالازدواج والتناقض.
والسبب الثالث: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} والنفقة هي بذل ما عندك من فضل ما أعطاه الله لك؛ سواء أكان ذلك مالاً أم علماً أم جاهاً أم قوة، وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع؛ لأن كل مجتمع به أعراض كثيرة، تجد القوي والضعيف، الغني والفقير، العالم والجاهل، الصحيح والمريض. ولو أن كل إنسان تحرك في حياته على قدر حاجته فقط لهلك الضعفاء والمرضى والعاجزون والفقراء. ولكن لابد أن يعمل كل إنسان على قدر طاقته، وليس على قدر حاجته، ولابد أن يأخذ من ناتج عمله على قدر حاجته ومن يعول، فأنت تأخذ حاجتك من ثمرة طاقتك، ثم تفيء على غيرك بفضل الله عليك، خصوصاً على هؤلاء الذين لا يقدرون على الحركة في الحياة، فالصحيح يعطي المريض من قوته ما يعينه على الحياة. والغني يعطي الفقير من ماله ما يعينه على الحياة. والقادر على الحركة يعطي من لا يقدر عليها، هذا هو المجتمع المتكافل.
ومثل هذا السلوك هو لصالح الجميع؛ لأن الغني اليوم قد يكون فقيراً غداً، والقوى اليوم قد يكون ضعيفاً غداً، فلو أحس الإنسان بأنه يعيش في مجتمع متكافل فهو لن يخشى الأحداث والأغيار. وهذا هو التأمين الصحيح للقادر والغني ويشعر فيه كل إنسان بالتضامن والتكافل، فلا ينشغل الفقير خوفاً من الأحداث المتغيرة، وإن مات فلن يجوع عياله، وإن افتقر الغني فسوف يجد المساندة، وإن مرض الصحيح فسوف يجد العلاج.
إذن: فالنفقة أمر ضروري لسلامة المجتمع، ونجد أن السوق توصف بأنها نافقة، وهي التي يتم فيها بيع كل من السلع وشراؤها. فمن أراد أن يبيع باع، ومن أراد أن يشتري اشترى، إذن فالحركة فيها متكافئة. وأنت حين تذهب إلى السوق لتبيع أو تشتري، فإما أن تأخذ مالاً نقدياً مقابل ما بِعْتَ، وإما أن تدفع مالاً ثمناً لما اشتريت. وقديماً كان الإنسان يبادل السلعة بسلعة أخرى. وبعد اختراع النقود أصبح الإنسان يشتري السلع بثمن، ومن ينفق ماله ويقدمه عند الله، فالحق سبحانه يأني له بكل خير.
وقد أراد الحق سبحانه للمنافقين العذاب الباطني في الدنيا، والعذاب الواقع أمام الكل في الآخرة، وبيِّن لهم أن إنفاقهم طَوْعاً أو كَرْهاً لن يأتي لهم بالخير.
ولكن من ينظر إلى المنافقين قد يجد أنهم يستمتعون بالمال والولد. ولا يلتفت الإنسان الناظر إليهم إلى أن المال والولد هما أدوات عذابه. وقد يقول إنسان: إن الله قد قال: {المال والبنون زِينَةُ الحياوة الدنيا..} [الكهف: 46].
ونقول لمن يقول ذلك: أكمل الآية: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46].
والحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ..} [التغابن: 15].
والله يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي طي هذا الخطاب خطابٌ لجميع المسلمين، وهنا يقول الحق سبحانه: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ..}.